توزيع الكُفر بالمجان – بقلم: د. ثروت الخرباوي
1ـ كنا نتكلم في المقال السابق عن التكفير، وكيف أننا في هذه الأيام نحتاج إلى “ضبط مصطلح الكفر” وأقول ضبطه على النسق الذي جاء في القرآن الكريم، لا على النسق الذي وصل إلينا من أفهام المسلمين الأوائل
2ـ وسبحان الله! كلهم يقولون بكفر غير المسلمين،وكفر كل من سمع عن الإسلام ولم يؤمن به،وكل من سمع عن سيدنا محمد “نصلي ونسلم عليه” ولم يتبعه،ولو كان “في أغمار الأرض وكهوف الجبال وأعطاف الغابات”والكلمة السابقة التي بين علامتي التنصيص مأخوذةمن أحد الكتب التي يتم تدريسها في جامعة الأزهر
3ـ وأنا لاأريد أن أصدِّع رؤوسكم مرة أخرى بالنصوص الموجودة في كتب العقيدة عن “الكفر” ولا أريد أن أضع أمامكم النصوص التي ازدحمت بها الكتب التي يتم تدريسها في هذا الشأن في جامعة الأزهر وغيرها،ولا يهمني أن أنقل لكم كل ما قاله شيوخ السلفية ومن والاهم وسار على نهجهم من أولهم إلى آخرهم
4ـ فكل الكلام واحد، لا ثاني له، ولا ثالث معه! إلا أنني أريد أن يعرف كل واحد من أهل مصر أن كل هذا الموروث هو ما فهمه القدماء ومن جاء بعدهم من النصوص الدينية،وسأضرب مثلا بما تواتروا عليه
5ـ، فيقولون:(الكفر في اللغة:الستر والتغطية قال ابن فارس: الكاف والفاء والراء،أصل صحيح يدل على معنى واحد،وهو الستر والتغطية وقال ابن الأثير:أصل الكفر تغطية الشيء تغطية تستهلكه وقد جاء إطلاق الكفر في اللغة على عدة تسميات،كلها ترجع إلي هذا المعنى فأُطلق على التراب، لأنه يستر ما تحته
6ـومنه تسمية المُزارع كافرا،قال الله:”كَمثلِ غيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفارَ نباتُهُ” أي الزراع ، وذلك لأن المزارع يستر البذر في الارض كما أُطلق الكافر في اللغة على الليل،لأنه يستر بظلمته كل شيء.ومنه تسمية الكفارات بهذا الاسم،لأنها تكفر الذنوب،أي تسترها مثل كفارة الأيمان،وكفارة الظهار)
7ـ هذا هو المعنى اللغوي، ستر وتغطية، أما المعنى الإصطلاحي فلا ستر فيه ولا تغطية، ولكنهم اتفقوا على أمر يخالف لسان القرآن بلا أي سبب منطقي، إذ يقولون :(الكفر شرعا هو عدم الإيمان ويقول ابن تيمية: الكفر عدم الإيمان بالله ورسوله،سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب،بل شك وريب)
8ـ الكفر هنا عند أصحاب المعنى اللغوي يختلف تماما عن الكفر عند أصحاب المعنى الإصطلاحي أي الذي اصطلحوا عليه، وكأن القرآن جاء بلسان غير لسان العرب!! كفر اللسان هو الحجب والتغطية،أما كفر الإصطلاح فهو عدم الإيمان أو عدم المعرفة أو حتى الشك
9ـ ولأنني سبق وأن نبهت منذ سنوات في مؤتمر علمي بأبي ظبي على ضرورة ضبط مصطلح “الكفر” وتوحيد المعنى اللساني لكلمة الكفر مع المعنى الاصطلاحي،فإنني توضيحا لذلك أقول إنني كنت أطالب بضبط مصطلح الكفر على “القرآن الكريم” فكل آيات القرآن الكريم تتحدث عن معنى واحد للكفر هو “الستر والتغطية”
10ـ أي أن الكافر هو من علم الحق ثم أنكره ولم يتبعه، وهذا معنى يختلف عن معنى “عدم الإيمان” لأن غير المؤمن ـ كما قلنا سابقا ـ هو واحد من بني البشر خلق الله له عقلا، أي أنه لم يخلق عقل نفسه، وعقله هذا الذي خلقه الله له لم يقتنع بالإيمان، سواء بالله أو بالإسلام.
11ـ رأى هذا المسكين دعاة يدعون للإيمان بالله وهم يقطعون رقاب عباد الله ثم يُكبِّرون “الله أكبر الله أكبر” ثم رآهم يشرحون الإسلام للناس فيقولون عنه قولا بشعا لا يقبله عقل أو قلب سليم،هذا المسكين الذي لم يخلق عقل نفسه،ولم يسمع عن الإسلام من أهله إلا الشر لم يؤمن.
12ـيقول دعاة التكفير إن الله سيدخله النار أبد الآبدين لأن الشيخ فلان والتابعي زيد قالوا عنه إنه كافر! أين العدل يا بُني في هذا القول،والله هو العدل،ألست معي في هذا؟! ولله المثل الأعلى ولكنني سأضرب لك مثلا،أتقبل يا بُني أن يخلقك الله ضعيف الفهم،ثم يدخلك النار لأنك لم تفهم؟!.
13ـ الله يا بُني يقول في القرآن للنبي عن كفار قريش “فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون” أي أن المسألة هنا ليست متعلقة بعدم تصديقهم لك،فهم يعلمون أنك نبي أرسلك الله بالهداية،ولكنهم حجبوا هذا العلم جحودا، هذا هو الكفر
14ـوعندما دخلوا معك يا نبي الله في جدل أقروا لك بالنبوة فقالوا “إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا” أي أنهم يعلمون أنك رسولٌ مرسل من عند الله برسالة الإسلام، ولكنهم يخافون على مصالحهم أن تتهدد لو آمنوا بك
15ـوقالوا أيضا إنهم يعترضون على شخص النبي لا على القرآن “وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم” فقد أدركوا أن هذا الدين سيجعل للنبي سيادة عليهم وهم كانوا يريدون السيادة لهم، ولذلك استخدموا مع النبي طريقة التعجيز لا طريقة الاستبيان والاستيضاح
16ـ فقالوا “لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا” هيا يا محمد اضرب بعصاك الأرض لتفجر لنا ينبوعا كبيرا من الماء، ثم خافوا أن يفعلها فزادوا في الطلب وقالوا “أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا”
17ـ أي أننا نريد أن تضرب لنا الأرض فيكون لك حدائق غناء فيها الأشجار والنخيل وتجري فيها الأنهار! ثم وجدوا أن الأمر قد يكون في استطاعته فأرادوا تحديا من نوع آخر هو “أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا” ثم استصغروا هذا التحدي فقالوا “أو تأتي بالله والملائكة قبيلا”
18ـ أي عليك يا محمد أن تأتي لنا بالله والملائكة هنا في أرضنا فنقابلهم ونشاهدهم! ثم رأوا أن يستمروا في جدلهم العقيم إلى نهاية المطاف فقالوا له “أو يكون لك بيت من زخرف” أي من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، ثم قالوا “أو ترقى في السماء” تصعد أمامنا الآن في السماء فنراك وأنت تصعد
19ـومع ذلك فإننا “ولن نؤمن لرقيك حتى تُنزِّل علينا كتابا نقرؤه” أي هات لنا رسالة من الله موقعة منه ومختومة بخاتمه تقول إنك الرسول! لذلك ولأن جدالهم كان فارغا ولمجرد الكفر،أي حجب الحق وستره عن الناس،وليس هدفه الإيمان قال الله للرسول “قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا”.
20ـ فإذا قرأنا القرآن على مهل وبروية، قراءة خاصة لنا،سنجد أن كل الآيات التي تتحدث عن الكفر تسير على نفس المنوال،وهو أمر مختلف عن عدم الإيمان
21ـ عدم الإيمان ينطبق عليه ما يخص أهل الفترة مثلا، أي الذين لم تصل لهم الرسالة، وعنهم لم يقل الله إنهم كانوا كفارا، ولكنه قال إنهم غافلون “لتنذر قوما ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون” كانوا أهل غفلة لا أهل كفر، وعندما وصلتهم الرسالة وتيقنوا منها وأنكروها أصبحوا كفارا.
بقلم: د. ثروت الخرباوي
شاهد أيضا لنفس الكاتب: المقال السابق – من هو الكافر؟ و ما هو الكفر؟
شاهد أحدث المسلسلات والأفلام- من هنا